المؤتمر الثالت في بيت لحم 2013

مامون الشيخ: وزارة الثقافة الفلسطينية

تقديم عن المسرح

عرف الفلسطينيون المسرح عبر مسارين أولهما النشاطات التي سبقت دخول المسرح إلى المنطقة وتمثل هذه الظواهر أنشطة فنية مختلفة مثل الحكواتي وخيال الظل وأشكال فرجوية أخرى أما الطريق الثاني فقد تعرفنا عبره على المسرح من خلال البعثات التبشيرية الدينية أما المسرح بمفهومه الحديث فإنهم عرفوه عبر دخول المسرح إلى المنطقة العربية عن طريق مارون النقاش 1847 في لبنان حيث ترتبط فلسطين بعلاقة جوار مع لبنان وباقي الأقطار العربية المجاورة وأقصد الهلال الخصيب.

إن تطور المسرح في باقي أقطار الوطن العربي كان طبيعياً ولم يمر بما مر به الشعب الفلسطيني من نكبة وتشريد نتيجه لاغتصاب أرض فلسطين من قبل الصهيونية والإمبريالية، إن حالة عدم الاستقرار والتشرذم والتمزق الذي عاشه ويعيشه الشعب الفلسطيني أدت إلى التباين في كيفية التعامل مع الظاهرة المسرحية وتلاحمها في صقل الهوية الوطنية الفلسطينية مما أدى إلى ظهور أنواع من المسارح منها في الداخل وأقصد أراضي 1948 ولا أقصد بذلك المسرح العبري بل أتحدث عن المسرحيين الفلسطينين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي، أما المسرح الثاني فأقصد بذلك تلك المسارح الفلسطينية التي تشكلت في الشتات من أجل إيصال الصوت الفلسطيني إلى المنابر الإعلامية و الثقافية في العالم، وكلا المسرحين ارتكز على هاجس استلاب الأرض والإنسان والهوية وبنبره فيها الخطاب الإعلامي المباشر، ولكن كلا المسرحين لا يمتلكان قدره تعبيريه تسمح لهما بالولوج إلى المشكلات الحقيقة للإنسان الفلسطيني وذلك للرقابة الصارمة في الأراضي المحتلة وانعكاس الخطاب الإعلامي الحكومي في الأقطار العربية التي تأسس بظلها المسرح والذي يحاول ترويج وجه نظرة السياسية، فلكي ينهض المسرح لابد من أن تتوفر الديمقراطية وحرية التعبير فلا يمكن للفنان أن يصل إلى هموم شعبه دون حرية الدخول إلى المشكلات الحقيقة التي يعاني منها .

الثقافة المسرحية

إن عموم هذه العناصر هي التي دفعتنا إلى التوقف عند مشكلات المسرح الفلسطيني في الأراضي المحتلة وفي الشتات من أجل الوصول إلى عناصر الالتقاء ودراسة عناصر التقاطع التي فرضتها ظروف سياسية خارجة عن إرادة الفنان الفلسطيني لذلك ظل المسرح تنظيراً وممارسة فناً نخبوياً ومقصياً إلى حد كبير من المعيش اليومي العربي، بالرغم من انتقال المجتمعات العربية من مجتمعات القرى والقبائل، إلى مجتمعات المدينة والدولة، بكل ما يتضمن ذلك من تحول في المتخيل الشعبي والذاكرة الجماعية التي عرفت تحولات رمزية كبيرة في التفكير والممارسة، خاصة بانفتاحها على العالم الغربي الذي لم يعد انفتاحاً نخبوياً مقتصراً على نخبة المثقفين والساسة، بل طال حتى أقصى عموم الشعوب المهمشة،بفضل العولمة في شقها ألإعلامي الذي يسفر هذا الانفتاح وتكريسه مشهداً تفاعلياَ  عبر وسيط الفضائيات والقنوات التلفزية، التي تعتبر من أبرز وأقوى الوسائط الاتصالية الجماهيرية، وظلت مع ذلك المدينة مجردة من أهم مكوناتها المعمارية والمجالية، فما هي الأسباب التي يشرح بها النقاد والكتاب المسرحيون هذا الفراغ الذي أحال المدينة إلى جسد خال من الروح، وجعل المدينة العربية  ومنها فلسطين تحديداً تعيش أزمة هوية فنية وجمالية نتيجة تمثلت  به شرعية ولا شرعية الممارسة المسرحية في السجل الديني، وبين التقليدية في التفكير العربي بشكل عام ، والممانعة الثقافية للتغيير وولوج الحداثة في أرحب تجلياتها وآفاقها، فهي أسئلة وأزمة لم يسلم منها حتى بعض المثقفين الذين ما فتئوا ينادون بمسرح عربي إسلامي،وآخرون اعتبروا المسرح ممارسة غربية ، علمانية دخيلة، ،  هذا بالإضافة الى أن الكتابة في المسرح ارتبطت في العالم العربي عموماً والمغرب خصوصاً بعزل منهجي مفروض، اقتصرت على المسرح في بعده الضيق، سواء من خلال تناول الفرجة والعروض المسرحية،أو من خلال كتابة النصوص المسرحية تأصيلاً وابداعاً،أونقلاً وترجمة، دون الخروج من المسرح إلى المجتمع،أو الولوج إليه عبر بوابة المجتمع بفضل مقاربات العلوم الاجتماعية ،باعتبار أن المجتمع في الأصل مسرح كبير، كما قال شكسبير : قد يبدو لعدد كبير من المتلقين العاديين ، أن المسرح  هو اداه ترفيهية فقط ، وأن المسرح ظل كما قلت سابقاً مسألة نخب وفئات اجتماعية دون أخرى لأسباب طبعاً ثقافية ،سياسية، اجتماعية واقتصادية... لكن القليل جداً، حتى من بين المسرحيين العرب أنفسهم من يعرف أن المسرح أثر بشكل كبير في علم الاجتماع، وفي السوسيولوجيين الغربيين ، إلى درجة أن نشوء وتطور نظرية الدور الاجتماعية يرجع بالأساس إلى المسرح،ولكن اذا اخذنا المسرح والمدينة بالغرب: بين التنظير والممارسة: إذا أخذنا الخريطة الثقافية ألغربية مركزين على المدينة كمجال للتطور ، وكفضاء اجتماعي تفاعلي، سنجد أن المسرح يشكل مكوناً مهماً وأساسياً في البنية التحتية الثقافية والاجتماعية،وذلك لسبب بسيط هو أن الثقافة الغربية ثقافة اعتمدت منذ قرون على الفن، وفن البوح والنقد وممارسة الحوار والاختلاق بل وراهنت منذ بدايات الأنوار على ما يسمى بالتحليل النفسي الثقافي، وهوالتحليل الذي جعل الغرب يصر على رؤية وجهه وثقافته وواقعه الاجتماعي فى مرآه وجدت تمظهرها الرمزي في الفنون: سينما، رقص، مسرح...إلخ،هذه الفنون وعلى رأسها المسرح جعل النقد الاجتماعي والسياسي في متناول الجميع، وجعل حياة الانسان وسعادته وحريته هو المقدس الوحيد في السجل الثقافي، وتبوأ المسرح بالفعل بما هو ممارسة اجتماعية رمزية تعكس الواقع الاجتماعي وتعالجه جمالياً افي الفنون الفرجوية الغربية قبل ان تجتاح خريطته السينما،التي لم تستطع بالرغم من ذلك هدم وتقويض العلاقة المبنية بين المسرح وجمهور المدينة،  لا بد من التأكيد على العلاقة الجدلية القائمة بين المجتمع والمسرح بصفة عامة،ذلك أن المسرح فن قبل أن يكون أداة تقنية أو بعداً ميتافيزيقياً او سياسياً أوبيداغوجياً،وهذا الفن الناتج عن الجهد الدائم والمتداخل لمجموعة من المبدعين الذين ينتمون إلى نسيج المجتمع نفسه، ويدخلون في تركيبة المدينة نفسها. إنه وسيلة إخبار، ووسيلة تواصل قائمتان على عرض مواقف متخيلة، وعلى توظيف العنصر الأساسي في كل مجتمع إنساني الذي هواللغة،هذه العلاقة ليست صدفه وأهمية المسرح في عمق وجدان المدينة ليست ترفاً كما هو الحال في الثقافة العربية ،خاصة في بعدها الشعبي لا ألعالم ، فالمسرح والمعبد والمنزل والساحة العمومية، كلها فضاءات تجمع بينها قرابة يجسدها تاريخ المدينة،بل هناك من ذهب ابعد من ذلك واعتبر أن كل فضاء في المدينة اوفضاء في المنزل هو فضاء لعب،أو هو بالضبط فضاء يضيف وظيفة درامية إلى مختلف الوظائف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ، فالمدينة كانت كمنزل كبير، والمنزل كمدينة صغيرة، والمسرح كان مدينة وأصبح منزلاً وبذلك ارتبط تاريخ المسرح بتاريخ المدينة ثقافيا واقتصادياً،بل إن المسرح والمدينة عاشا معاً في حقب تاريخية وضعية مزدوجة: وضعية حقيقية ووضعية مثالية، وضعية معيشة ووضعية محلوم بها، فوجدنا أن المدينة المثالية شكل من الأشكال الممكنة للمسرح، تماما كما أن المكان المسرحي صورة من الصورة الممكنة للمدينة المثالية .


إن العلاقة الوطيدة بين المسرح والمدينة، والتي تجد اليوم أجمل التجليات وأفضلها في المجتمعات الغربية، ليست وليدة اليوم، بل هي نتاج استمرارية في الاعتراف والوصل بالثقافة القديمة ، سواء اليونانية أو الإغريقية، والكل يعلم قيمة الفضاء المسرحي في هاتين الثقافتين، التي نجدها متجلية في وصف فريدريش فان شيلر (1759-1805) حيث قال إن التراجيديا الإغريقية علمت الإنسان الإغريقي ممارسة حريته، لذلك كان من الضرورة وفق هذا التصور النظري والتاريخي للمسرح كفن وممارسة جمالية ذات أهمية اجتماعياً وثقافيا،أن تحتفي المدينة بالمسرح وبالمسرحيين، وأن يكون المسرح على المستوى المعماري جمالياً ومجالياً أحد أهم أركان المدينة،لأن المسرح ليس فقط بناية، وخشبة ومشاهد وسينوغرافيا وما إلى ذلك من المكونات الأساسيةً للعملية المسرحية، بل علاقات اجتماعية ووظائف اجتماعية ثقافية لا يمكن فصلها عن التفاعلية الرمزية في المعيش اليومي لكل البشر،لأن المسرح بما هو وظيفياً عملية نقدية ميتا اجتماعية، توضح وتكشف عمق زيف تفاعلاتنا وبشاعة بعض الأدوار التي نرغم أو نختار أداءها لصالح النسق الاجتماعي والسياسي والثقافي، والتي تتعارض مع جوهر الإنسانية التي تتلخص في الحرية والحب والاختلاف،ذلك أن هناك مماثلة بين الفاعلين في المجتمع والممثلين على خشبة المسرح،ولما كان الممثلون يؤدون أدواراً محدودة ويشغلون مراكز واضحة على خشبة المسرح، كذلك الفاعلون في المجتمع يؤدون ادواراً محددة ويشغلون مراكز واضحة، وإذا كان مطلوباً من الممثلين فوق خشبة المسرح احترام النص المكتوب وعدم الخروج عليه فإنه في إطار المجتمع بما هو مسرح كبير، ينبغي على الفاعلين عند أداء سلوكهم اتباع المعايير والإلتزام بأوامر الذين يمسكون بزمام القوة والسلطة ، التي حولت ، بمختلف تجلياتها سواء كانت مال أو وسائل انتاج أو تسلط أنظمة الحكم...إلخ الإنسان إلى مجرد جسد مقموع ومشوه، وجعلت المدينة مجرد بنايات وأشكال هندسية لقمع الجسد وتصريف عنف السلطة وفق استراتيجية تهجينية، أفقدت المدينة روحها وجعلت متخيلها يلتقي ومتخيل الجسد المقموع، إلى درجة أن المدينة في المتخيل الشعبي أصبحت معادلاً رمزياً لا شعورياً للقمع والأسر والتهجين،إنها رمز للسلطة والعنف والسجن في آن ،لذلك كله كان المسرح نبض المدينة ومخيالها الحي، فهذا الفن ينبع كما يقول الدكتور يونس لوليدي:" كخلق جمالي من مجال التجرية الجمالية،ويلعب في بعض الظروف دور التجربة الحيوية للحياة الاجتماعية في المدينة، وليس فقط عن طريق توظيف تقنيات مثل " السيكو-دراما " و " السوسيو-دراما " وإنما كذلك عن طريق التكوين السيكولوجي والاجتماعي الذي تقوم به بعض الأعمال المسرحية، حيث تمكن من التسامي عن الغرائز، ومن الكشف عن الإمكانيات والطاقة المجهولة، أو غير المعترف بها، فتعتبر هذه الأعمال المسرحية تجارب علاجية في متناول المدينة ، وهنا بالطبع يمكننا أن نعقد مقارنة بين الجلسات التي ينظمها عالم النفس السلوكي مع زبنائه المعالجين وهو يدفعهم إلى إعادة تمثيل أدوارهم في أحلامهم بالدور الذي يقوم به المسرح سواء بالنسبة للممثلين الذين يعيشون ادوارهم في حالة اندماج حقيقي ام بالنسبة للمشاهدين الذين يحررون ذواتهم من ظغوط الحياة اليومية، وهذا يذكرنا أيضاً بفكرة التطهرالتي تحدث عنها ارسطو منذ امد بعيد، وتمكننا أن نتساءل مع ذلك ألا تقوم جميع انماط الإبداع الأدبي (بما فيها القصص والأشعار)، يمثل هذه الوظائف في حياة الناس ؟ ثم ألا يحرر الجميع أنفسهم كتابا وقراء وحالمين من مشكلات الحياة اليومية ومحبطاتها ؟ ألا يؤدي الإبداع والحلم على السواء أيضاً دور إعادة تجديد حيوية الإنسان لمواجهة أعباء الحياة العاتية .

 وفي الختام يجب أن يبنىى المسرح في ساحات المدينة التي يمكن الوصول إليها بسهولة والتي ينبغي أن تكون ملتقى شوارع كثيرة تسمح بمرور الجمهور الذي يركب العربات، وتضمن سلامة الجمهور الراجل، كما ان اللمسة الجمالية والفنية ينبغي أن تمس ظاهر المسرح وباطنه، وما من شك في ان هذه المقترحات هي وليدة تصورات جديدة عن المدينة، مدينة تكثر فيها الساحات ومفترقات الطرق والشوارع والأزقة، حيث يتحقق التوازن بين النظام والتنوع .